فوز شينباوم- اليسار يمدد ولايته في المكسيك وتحديات الهجرة والسيادة

المؤلف: د. محمد الروين10.25.2025
فوز شينباوم- اليسار يمدد ولايته في المكسيك وتحديات الهجرة والسيادة

يبدو أن المد اليساري في أمريكا اللاتينية، بامتداد أراضيها الشاسعة من وسطها إلى جنوبها، لا يزال يحتفظ بحيويته وزخمه. فقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في المكسيك فوزًا ساحقًا لعالمة الفيزياء كلوديا شينباوم، التي ستتبوأ منصب الرئاسة، مما يمنح اليسار المكسيكي فرصة ثمينة للاستمرار في السلطة لولاية ثانية. يأتي هذا بعد التحول التاريخي العميق الذي قاده قبل ستة أعوام الرئيس المنتهية ولايته أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، والذي يحلو لأنصاره تسميته بـ "أملو" كاختصار محبب.

إن تأسيس أوبرادور لحركة التجديد الوطني "مورينا" في عام 2014، إثر انسحابه من حزب الثورة الديمقراطية الذي شارك في تأسيسه مع ثلة من رفاقه في عام 1989، شكل بداية منعطف تاريخي حاسم في مسيرة المكسيك. فمن خلال عمل دؤوب ومثابرة لا تلين، نجح في استعادة المكسيك من قبضة اليمين المكسيكي المهيمن، والمتمثل في الحزب الثوري المؤسساتي، باستثناء فترة قصيرة شهدت سيطرة طفيفة لليمين المحافظ من خلال حزب العمل الوطني بين عامي 2006 و2018، بعد هيمنة استمرت قرابة قرن كامل.

بين الجامعة والسياسة

تتمتع كلوديا شينباوم بمؤهلات علمية رفيعة، فهي حاصلة على درجة الدكتوراه في الفيزياء، وتنتمي أكاديميًا إلى الجامعة الوطنية المستقلة المرموقة في المكسيك. وإلى جانب ذلك، فهي سياسية يسارية تنتمي إلى حزب "مورينا" الحاكم، وهو نفس الحزب الذي ينتمي إليه سلفها ومعلمها الرئيس أوبرادور. كما أنها يهودية الديانة، ذات توجه تقدمي. وقد هاجر أجدادها من بلغاريا وليتوانيا إلى المكسيك فرارًا من أهوال النازية. وتفصلها مسافة واضحة عن الحركة الصهيونية، حيث عُرفت بتوقيعها على رسالة في الماضي تدين بشدة همجية الاحتلال الصهيوني في فلسطين.

هذا ما أكدته هيئة البث الإسرائيلية العامة "كان"، حين أشارت إلى أن اليهود في المكسيك لا يشعرون بحماس كبير تجاه الرئيسة الجديدة التي تدين باليهودية، والتي أصبحت أول امرأة تتولى قيادة المكسيك. ووفقًا للهيئة، فإن شينباوم لا تخفي هويتها الدينية، ولكنها في الوقت ذاته لا تسلط الضوء عليها بشكل مبالغ فيه. وفي أوساط الجالية اليهودية، يتردد القول: "ليس لها صلة بنا".

وقد حصدت شينباوم أكثر من 59% من الأصوات، وهي أعلى نسبة يتم تسجيلها في تاريخ الانتخابات المكسيكية، كما أكدت المعطيات الصادرة عن المعهد الوطني للانتخابات. وفاز حزب "مورينا" في 24 ولاية من أصل 32 في الجمهورية الفدرالية، التي تعتبر الأولى على مستوى العالم من حيث عدد المتحدثين باللغة الإسبانية. كما حصل الحزب على الأغلبية في غرفتي البرلمان، بالإضافة إلى الفوز بمناصب حكام الولايات والبلديات ومجموعة واسعة من المناصب العمومية.

ويتم انتخاب الرئيس في المكسيك كل ست سنوات وفقًا لنظام اقتراع الأغلبية النسبية، ولفترة ولاية واحدة فقط، وهو تقليد دستوري يميز المكسيك عن معظم بلدان أمريكا اللاتينية، التي تعتمد نظام اقتراع الدورتين في حالة عدم حصول أحد المرشحين على أغلبية واضحة. وإلى جانب المكسيك، هناك خمس دول أخرى في أمريكا اللاتينية تعتمد نظام اقتراع الأغلبية، وهي: هندوراس، ونيكاراغوا، وبنما، وباراغواي، وفنزويلا.

قطيعة أم امتداد لأوبرادور؟

يمثل فوز شينباوم استمرارًا وتعميقًا للمسار الذي بدأه أوبرادور قبل ست سنوات، والذي يتميز بشكل أساسي بتعزيز مسيرة التحرر من الهيمنة الأمريكية، وذلك في إطار مشروع تحرري شامل يمتد ليشمل جميع دول أمريكا اللاتينية، من خلال خلق مسافة محسوبة معها دون الدخول في صدام يخل بالتوازنات التي يتطلبها الجوار الجغرافي، ويجعل من سؤال الاستقلال والسيادة الفعليين محورًا رئيسيًا في هذا المشروع.

ومن اللافت للنظر أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، وبعد وقت قصير من تأكيد فوز شينباوم، أعلن عن خطة لتشديد القيود على المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون الحدود إلى الولايات المتحدة الأمريكية عبر المكسيك. وهؤلاء المهاجرون يأتون من مختلف دول أمريكا اللاتينية ويقدر عددهم بعشرات الآلاف.

فالهجرة والأمن هما أداتا الضغط والابتزاز اللتان تستخدمهما الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات طويلة في علاقاتها مع المكسيك. وتتسم هذه العلاقة بالكثير من الخصوصية مقارنة ببقية دول أمريكا اللاتينية، حيث يقدر عدد المكسيكيين المقيمين على الأراضي الأمريكية بحوالي 37 مليون نسمة.

ويمكن القول إن معظم المنظمات والهيئات العاملة في مجال الهجرة تدعم كلوديا شينباوم. فقد صرح رئيس رابطة المواطنين "اللاتينو-أمريكيين" المتحدين، دومنغو غارسيا، بعد فوزها بأنه "يرغب في العمل مع الرئيسة الحالية على الملفات التي تهم المهاجرين، وعلى رأسها ملف الحقوق المدنية على مستوى البلدين، أمريكا والمكسيك". كما أكدت شبكة جمعيات الأمريكتين، التي تضم 58 منظمة تمثل المهاجرين "اللاتينو-أمريكيين" في الولايات المتحدة، أن فوز شينباوم يحمل دلالات عميقة على المستويين الاجتماعي والسياسي، وهو ما قد ينعكس بشكل إيجابي على وضع المهاجرين داخل أمريكا.

مشروع كلوديا شينباوم

في السياق ذاته، تعتبر معركة الحقوق الاجتماعية، وحماية البيئة، وتوسيع شبكة الطرق، وتعزيز البنى التحتية الصحية جزءًا لا يتجزأ من المسار الذي أطلق عليه الزعيم أوبرادور مؤسس حزب "مورينا"، اسم "التحول الرابع" في البرامج الاجتماعية. وكانت الرئيسة المنتخبة قد أكدت خلال حملتها الانتخابية أنها ستنفذ بشكل كامل مشاريع المرحلة الثانية من المشاريع التي بدأها سلفها الذي تعتبره مصدر إلهام لها.

وتعتبر معركة إصلاح السلطة القضائية من أهم القضايا المطروحة على أجندتها السياسية، خاصة في بيئة تعاني من العنف المتفشي ونفوذ عصابات المخدرات الذي يمتد إلى العديد من المؤسسات، بالإضافة إلى الإرث الثقيل من الفساد المتراكم من فترة الحكم الطويلة للحزب الثوري المؤسساتي. وقد وصل ذلك الحزب اليميني إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة، ولكن غياب منافس قوي سمح له بالبقاء في السلطة لفترة طويلة جدًا، لدرجة دفعت الأديب البيروفي ماريو فارغاس يوسا إلى وصف النظام المكسيكي بـ "الدكتاتورية المثالية".

ويتضمن برنامج شينباوم تطوير المعهد الوطني للانتخابات، الذي يعتبر مؤسسة ضرورية لتحسين الأداء الديمقراطي في البلاد، بالإضافة إلى قضايا تحديث ودمقرطة مؤسسة الحرس الوطني، وذلك في إطار عملية إصلاح شاملة للهياكل والمؤسسات الأمنية، بعيدًا عن الأجندات السياسية لجهات قد تدفع بالبلاد إلى حالة من الفوضى في محيط يوفر ما يكفي من الشروط والعوامل المشجعة على ذلك.

وأكدت وسائل الإعلام في المكسيك أن كلوديا شينباوم ستحتفظ بوزير الميزانية – الذي عمل مع الرئيس السابق – الدكتور "راميريز دي لا أو"، وهو خبير اقتصادي مرموق على الصعيدين الداخلي والخارجي، وخاصة في أوساط الطبقات الفقيرة والمتوسطة، حيث ساهم في خفض نسبة الفقر في البلاد من 60% إلى 40%؛ وذلك في إطار التزامها بمواصلة مسيرة الإصلاحات الاجتماعية، الضرورية لشعب أنهكه الفقر وأتعبته الفوارق الاجتماعية التي تعمقت خلال عقود من حكم اليمين، ولمواصلة خفض عجز الميزانية إلى أدنى مستوياته بحلول نهاية عام 2025.

وأثار اهتمام المراقبين أن انتخاب شينباوم للرئاسة تزامن مع فوز حزب "مورينا" بأغلبية المقاعد في المؤسسة التشريعية. ويعرب البعض عن مخاوفهم من إمكانية إجراء إصلاحات دستورية قد تضر بالتوازنات السياسية والاقتصادية ومناخ الأعمال، بينما يخشى آخرون من أن يؤدي ذلك إلى استخدام الأجهزة الحكومية لخدمة أجندة حزبية والسيطرة على مفاصل الدولة، بدلًا من التركيز على المشاكل الحقيقية التي تواجه المكسيكيين، وتعزيز مسيرة الديمقراطية والانفتاح، في بلد لا يزال بحاجة إلى مزيد من الانفتاح بقدر حاجته إلى التضامن الاجتماعي.

وينتظر الكثيرون تفاعلًا حقيقيًا من الرئيسة الجديدة مع الأحداث المأساوية التي تجري في فلسطين من إبادة جماعية، ووضع حد للتردد المكسيكي في الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فقد أعلن سلفها انضمام بلاده إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، لكنه لم يعلن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهي مفارقة يسجلها المتابعون لشؤون العالم الناطق بالإسبانية، على الرغم من انتماء حزب الرئيسة المنتخبة إلى الطيف اليساري الحاكم في معظم دول أمريكا اللاتينية، والذي يتبنى خطابًا قويًا في الدفاع عن حرية الشعب الفلسطيني، وينتقد الدعم الأمريكي اللامحدود لكيان الاحتلال الإسرائيلي بحدة مفقودة حتى في أوساط الأنظمة الرسمية العربية.

تخوفات لها ما يبررها، والأيام القادمة كفيلة بتأكيدها أو نفيها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة